الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وأنشد غيره: الطويل: وقول الآخر: البسيط: وأنشد ابن الشَّجري: الطويل: وللكلام على الأبيات موضعٌ غير هذا.وأمَّا من نصب الثلاثة منونةً فتخريجها على أن تكون منصوبةً على المصدر بأفعال مقدرةٍ من لفظها، تقديره: فلا يَرْفُثُ رَفَثًا، ولا يَفُسُقُ فُسُوقًا ولا يُجَادِلُ جِدَالًا، وحينئذٍ فلا عمل للا فيما بعدها، وإنَّما هي نافيةٌ للجمل المقدرة، و{في الحجِّ} متعِّلقٌ بأيِّ المصادر الثَّلاثة شئت، على أنَّ المسألة من التنازع، ويكون هذا دليلًا على تنازع أكثر من عاملين، وقد يمكن أن يقال: إنَّ لا هذه هي التي للتَّبرئة على مذهب من يرى أنَّ اسمها معربٌ منصوب، وإنما حذف تنوينه؛ تخفيفًا، فرجع الأصل في هذه القراءة الشاذة كما رجع في قوله: الوافر: وقد تقدَّم تحريره.وأمَّا قراءة الفتح في الثَّلاثة فهي لا التي للتَّبرئة.وهل فتحة الاسم فتحة إعراب أم بناءٍ؟ فيه قولان، الجمهور على أنَّها فتحة بناءٍ، وإذا بني معها، فهل المجموع منها، ومن اسمها في موضع رفع بالابتداء، وإن كانت عاملة في الاسم النصب على الموضع وما بعدها، ولا خبر لها؟ أو ليس المجموع في موضع مبتدأ، بل لَا عاملةٌ في الاسم النَّصب على الموضع، وما بعدها خبرٌ للَا؛ لأنَّها اجريت مجرى أنَّ في نصب الاسم، ورفع الخبر؛ قولان:الأول: قول سيبويه.والثاني: قول الأخفش.وعلى هذين المذهبين، يترتَّب الخلاف في قوله: {فِي الحَجِّ}، فعلى مذهب سيبويه: يكون في موضع خبر المبتدأ، وعلى رأي الأخفش: يكون في موضع خبر لا، وقد تقدَّم شيء من هذا أول الكتاب.وأمَّا من رفع الأولين، وفتح الثالث: فالرفع على ما تقدَّم، وكذلك الفتح، إلا أنه ينبغي أن ينبَّه على شيءٍ: وهو أنَّا قلنا بمذهب سيبويه من كون لا وما بني معها في موضع المبتدأ، على مذهب الأخفش، فلا يجوز أن يكون {في الحجِّ} إلا خبرًا للمبتدأين، أو خبرًا للَا.لا يجوز أن يكون خبرًا للكلِّ؛ لاختلاف الطالب؛ لأنَّ المبتدأ يطلبه خبرًا له، ولا يطلبه خبرًا لها.وإنَّما قرئ كذلك، قال الزمخشري: لأنَّهما حَمَلا الأوَّلَيْنِ على معنى النَّهي، كأنه قيلَ: فلا يكوننَّ رَفَثٌ ولا فُسُوقٌ، والثالثُ على معنى الإخبارِ بانتفاء الجِدالِ، كأنه قِيلَ: ولا شكَّ ولا خلاف في الحجِّ، واستدلَّ على أنّ المنهيَّ عنه هو الرفث والفسوق دون الجدال، بقوله عليه السلام: «مَنْ حَجَّ فلم يَرْفُثْ ولم يَفْسُقْ».وأنه لم يذكر الجدال.وهذا الذي ذكره الزمخشريُّ سبقه إليه صاحب هذه القراءة؛ إلاَّ أنه أفصح عن مراده، قال أبو عمرو بن العلاء أحد قارئيها: الرفع بمعنى فَلاَ يَكُونُ رَفَثٌ وَلاَ فُسُوقٌ، أي شيء يخرج من الحجِّ، ثم ابتدأ النفي فقال: {ولا جدال}، فأبوا عمرو لم يجعل النفيين الأوَّلين نهيًا، بل تركهما على النَّفي الحقيقي.فمن ثم، كان في قوله هذا نظيرٌ؛ فإنَّ جملة النفي بلا التبرئة، قد يراد بها النهي أيضًا، وقيل ذلك في قوله تعالى: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2].والذي يظهر في الجواب عن ذلك، ما نقله أبو عبد الله الفاسي عن بعضهم فقال: وقيل: الحُجَّةُ لِمَنْ رَفَعَهُمَا أنَّ النفيَ فيهما ليس بعامٍّ؛ إذ قد يقعُ الرفَثُ، والفُسُوقُ في الحَجِّ من بعض الناسِ، بخِلاَفِ نفي الجِدَالِ في أَمْرِ الحجِّ؛ فإنه عامٌّ؛ لاسْتِقْرَارِ قَوَاعِدِهِ. قال شهاب الدِّين.وهذا يتمشَّى على عُرف النَّحويين، فإنهم يقولون: لا العاملة عمل لَيْسَ لنفي الوحدة، والعاملة عمل إنَّ لنفي الجنس، قالوا: ولذلك يقال: لا رجل فيها، بل رجلان، أو رجالٌ؛ إذا رفعت، ولا يحسن ذلك إذا بنيت اسمها أو نصبت بها.وتوسَّط بعضهم فقال: التي للتبرئة نصٌّ في العموم، وتلك ليس نصًّا.والظاهر أنَّ النكرة في سياق النفي مطلقًا للعموم، وقد تقدَّم معنى الرَّفث في قوله: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] قال ابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر: هو الجماع، وهو قول الحسن، ومجاهد، وعمرو بن دينار، وقتادة، وعكرمة، والنخعي، والربيع.وروي عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما: الرَّفث: غشيان النساء، والتَّقبيل، والغمز، وأن يعرض لها بالفحش من الكلام.وقال طاوسٌ: هو التَّعريض للنساء الجماع، وذكره بين أيديهنَّ.وقال عطاءٌ: الرَّفث: هو قول الرجل للمرأة في حال الإحرام: إذا حللت، أَصَبْتُكِ.وقيل الرَّفث: الفحش، والفسق وقد تقدم في قوله: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين} [البقرة: 26].وقرأ عبد الله: {الرَّفُوث} وهو مصدر بمعنى الرَّفث. وقوله: {فَلاَ رَفَثَ} وما في حيِّزه في محلِّ جزمٍ، إن كانت مَنْ شرطيةً، ورفع، إن كانت موصولةً، وعلى كلا التقديرين، فلابد من رابطٍ يرجع إلى مَنْ؛ لأنها إن كانت شرطيةً، فقد تقدَّم أنه لابد من ضمير يعود على اسم الشرط، وإن كانت موصولة، فهي مبتدأ والجملة خبرها، ولا رابط في اللَّفظ، فلابد من تقديره، وفيه احتمالان:أحدهما: أن تقديره: ولا جدال منه، ويكون منه صفَّة لجِدَال، فيتعلَّق بمحذوف، فيصير نظيره قولهم: السَّمْنُ مَنَوانِ بِدِرْهَمٍ تقديره: منوان منه.والثانيك أن يقدَّر بعد {الحج} تقديره: ولا جدال في الحجِّ منه، أو: له.ويكون هذا الجارُّ في محلِّ نصب على الحال من {الحج}.وللكوفيِّين في هذا تأويل آخر: وهو أنَّ الألف واللام نابت مناب الضمير، والأصل: في حجِّه، كقوله: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} [النازعات: 40] ثم قال: {فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى} [النازعات: 41] أي: مأواه.وكرَّر الحجَّ؛ وضعًا للظاهر موضع المضمر تفخيمًا، كقوله: الخفيف: وكأنَّ نظم الكلام يقتضي: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الحجَّ فَلاَ رَفَث فيه، وحسَّن ذلك في الآية الكريمة الفصل بخلاف البيت.والجدال مصدر جَادَل.والجدال: أشدُّ الخصام، مشتقٌّ من الجدالة، وهي الأرض؛ كأن كلَّ واحد من المتجادلين يرمي صاحبه بالجدالة.قال القائل: الراجز: ومنه الأَجْدَالُ للصَّقر؛ لشدَّته.وقال القائل: الكامل: والجدل: فَتْلُ الحبل، ومنه زمامٌ مجدولٌ، أي: محكم الفتل.وأمّا الجدال: فهو فِعَالٌ من المجادلة، الذي هو الفَتْلُ، يقال: زمامٌ مجدولٌ وجديلٌ، أي: مفتولٌ، والجديل: اسم للزِّمان؛ لأنه لا يكون إلاَّ مفتولًا، وسميت المخاصمة مجادلة لأنّ كلَّ واحدٍ من الخصمين يروم أن يفتل صاحبه عن رأيه.قولُه: {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ} تقدَّمَ الكلامُ على نَظِيرتِهَا، وهي: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة: 106] فَكُلُّ ما قيلَ ثَمَّ، يُقالُ هُنَا.قال أبو البقاء رحمه الله وَنَزِيدُ هنا وَجْهًا آخرَ: وهو أَنْ يَكُونَ {مِنْ خَيْر} في مَحلِّ نصبٍ نَعْتًا لمَصْدرٍ مَحْذُوفٍ، تقديرُه: وَمَا تَفْعَلُوا فِعْلًا كَائِنًا مِنْ خَيْرٍ.و{يَعْلَمْه} جَزْمٌ على جوابِ الشَّرط، ولابد مِنْ مَجَازٍ فِي الكَلامَ: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَبَّر بالعِلْم عن المُجازاة على فعل الخَيْر، كأنّهُ قِيل: يُجازِيكم، وإِمَّا أَنْ تُقَدَّر المُجازاة بعد العِلم، أي: فيثيبُه عَلَيْه.وفي قوله: {وَمَا تَفْعَلُوا} التفَاتٌ؛ إذْ هو خُرُوج مِنْ غَيْبَةٍ في قوله: فَمَنْ فَرَضَ وحُمِلَ على مَعْنَى مَنْ إذ جَمَعَ الضميرَ ولم يُفْرده.وقد خَبَطَ بعضُ المُعْربين، فقال: {مِنْ خَيْر} مُتعَلِّق بتَفْعلوا، وهو في مَوضع نصب؛ لمصدّر محذوفٍ، تقديرُه: وَمَا تَفْعَلُوا فِعْلًا مِنْ خَيْر والهاءُ في {يَعْلَمْه} تَعُودُ إلى خير.قال شهابُ الدِّين: وهذا غَلَطٌ فاحِشٌ؛ لأَنَّه مِنْ حَيْثُ عَلَّقه بالفعلِ قبله كيف يَجْعَلُه نَعْتَ مصدرٍ مَحذوفٍ؟ ولأنَّ جَعْلَه الهاءَ تعودُ إلى {خَيْر} يلزمُ منه خلوُّ جملة الجواب مِنْ ضمير يَعُودُ اسم الشَّرْطِ، وذلك لا يجوزُ، أَمَّا لَوْ كانَتْ أَداةُ الشَّرْطِ حَرْفًا، فلا يُشْترطُ فيه ذلك، فالصَوابُ ما تقدَّم.وإنما ذكرت لك هذا لِئَّلا تراه فَتَتَوهَّمَ صِحَّتَه.والهاءُ عائِدةٌ على ما الَّتي هي اسمُ الشَّرْطِ.قولهُ: {واتَقُونِي} أَثبتَ أبو عمر الياءَ في قوله: {وَاتَّقُونِي} على الأصل، وحذف الآخرون؛ للتخفيف، ودلالة الكسرةِ عليه، وفيه تَنْبيهٌ على كمالِ عظمةِ اللَّهِ وجلالِهِ؛ وهو كقول الشَّاعر: الرجز: قوله: {واتقون يا أولي الألباب} اعلم أَنَّ لُبَّ الشيءٍ ولُبَابَهُ هو الخَالِصُ منه.قال النَّحاسُ: سمعت أبا إسحاق يقول: قال لي أحمدُ بن يحيى ثعلبٌ: أتعرف في كَلام العرب شيْئًا من المُضاعَفِ جاء على فَعُلَ؟ قلت: نعم، حكى سيبويه عن يونس: لَيُبْتَ تَلُبّ؛ فاسْتَحْسَنُه، وقال: ما أَعْرفُ له نظيرًا.واختلفوا فيه فقال بعضهم: إنّه للعقلِ؛ لأنه أشرفُ ما في الإنسان، وبه تميز عن البهائِمِ، وقَرُبَ مِنْ درجةِ الملائكة.وقال آخرون: إنّه في الأَصْلِ اسمٌ للقَلْبِ الذي هو محل للعقلِ، والقَلْبُ قد يُجعل كنايةً عن العَقلِ، فقوله: {ياأولي الألباب} أي: يا أُولِي العُقُولِ، وإطلاق اسم المحلِّ على الحال مجازٌ مشهُورٌ.فإن قيل: إذا كان لا يصِحُّ إِلاَّ خِطَابٌ العقل؛ فما فائدة قوله: {ياأولي الألباب}؟!فالجواب: معناهُ أنّكم لمّا كنتُم مِنْ أُولِي الألباب، تمكنتُم مِنْ معرفة هذه الأشياء، والعَمَلِ بها، فَكَانَ وجوبها عليكم أَثبت، وإعراضُكم عنها أقبحَ؛ ولهذا قال الشاعر: الوافر: وقال تبَاركَ وتعالى: {أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف: 179] يعني: أَنَّ الأنعامَ مَعْذُورةٌ بسبب العَجزِ، وأَمَّا هؤلاء فقادِرُون فكان إعراضهم أفحش، فلا جرم كانُوا أَضَلَّ. اهـ. باختصار.
|